صيد الخاطر لابن الجوزي - اليقظة الدائمة
همة المؤمن متعلقة بالآخرة ، فكل ما في الدنيا يحركه إلى ذكر الآخرة ، و كل من شغله شيء فهمته شغله .
ألا ترى أنه لو دخل أرباب الصنائع إلى دار معمورة ، رأيت البزار ينظر إلى الفرش و يحزر قيمة ، و النجار إلى السقف ، و البناء إلى الحيطان ، و الحائك إلى النسيج المخيط .
و المؤمن إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر ، و إن رأى مؤلماً ذكر العقاب ، و إن سمع صوتاً فظيعاً ذكر نفخة الصور ، و إن رأى الناس نياماً ذكر الموتى في القبور ، و إن رأى لذة الجنة ، فهمته متعلقة بمآثم ، و ذلك يشغله عن كل مأتم .
و أعظم ما عنده أنه يتخايل دوام البقاء في الجنة ، و أن بقاءه لا ينقطع و لا يزول و لا يعتريه منغص ، فيكاد إذا تخايل نفسه متقلباً في تلك اللذات الدائمة التي لا تفنى يطيش فرحاً و يسهل عليه ما في الطريق إليها من ألم و مرض و ابتلاء و فقد محبوب و هجوم الموت و معالجة غصصه .
فأن المشتاق إلى الكعبة يهون عليه رمل زرود ، و التائق إلى العافية لا يبالي بمرارة الدواء .
و يعلم أن جودة الثمر ثم على مقدار جودة البذر ههنا ، فهو يتخير الأجود ، و يغتنم الزرع في تشرين العمر من غير فتور .
ثم يتخايل المؤمن دخول النار و العقوبة ، فينغص عيشه و يقوى قلقه ، فعنده بالحالين شغل عن الدنيا و ما فيها ، فقلبه هائم في بيداء الشوق تارة و في صحراء أخرى ، فما يرى البنيان .
فإذا نازله الموت قوى ظنه بالسلامة ، و رجا لنفسه النجاة فيهون عليه .
فإذا نزل إلى القبر و جاءه من يسألونه ، قال بعضهم لبعض : دعوه فما استراح إلا الساعة .
نسأل الله عز وجل يقظة تامة تحركنا إلى طلب الفضائل ، و تمنعنا من إختيار الرذائل ، فإنه إن وفق ، و إلا فلا نافع .
No comments:
Post a Comment