الأربعين النووية
( الحديث الثاني و الثلاثون : نفي الضرر في الإسلام )
عن أبي سَعِيدٍ سَعْدِ بن سِنَانٍ الخُدْرِي رضي اللهُ عنه : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ ".
حديث حسن، رواه ابن ماجه و الدَّارَقُطْنِيُّ وغيرُهما مسنَداً .
قال أبو داود السِّجِسْتَاني : إنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها .
الضرر أن يُلْحِقَ الإنسان أذىً بمن لم يؤذه، والضرار أن يلحق أذى بمن قد آذاه على وجه غير مشروع .
المنفي هو الضرر لا العقوبة والقصاص : المراد بالضرر في الحديث هو ما كان بغير حق، أما إدخال الأذى على أحد يستحقه - كمن تعدى حدود الله تعالى فعوقب على جريمته، أو ظلم أحداً فعومل بالعدل وأوخذ على ظلمه - فهو غير مراد في الحديث لأنه قصاص شرعه الله عز وجل .
بل من نفي الضرر أن يُعَاقَبَ المجرم بِجُرمه ويؤخذ الجاني بجنايته، لأن في ذلك دفعاً لضرر خطير عن الأفراد والمجتمعات .
لا تكليف في الإسلام بما فيه ضرر، ولا نهي عما فيه نفع :
إن الله تعالى لم يكلف عباده فعل ما يضرهم البتة ، كما أنه سبحانه لم ينههم عن شيء فيه نفع لهم، ففيما أمرهم به عين صلاحهم في دينهم ودنياهم، وفيما نهاهم عنه عين فساد معاشهم ومعادهم . قال تعالى : {قلْ أمرَ ربِّي بالقِسْطِ} [ الأعراف: 29] و قال : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] .
رفع الحرج :
من نفي الضرر في الإسلام رفع الحرج عن المكلف ، والتخفيف عنه عندما يوقعه ما كُلِّف به في مشقة غير معتادة ، ولا غرابة في ذلك فإن هذا الدين دينُ التيسير، قال الله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: 78] و قال : {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } [ البقرة: 286] .
ومن أمثلة التخفيف عن المكلف عند حصول المشقة :
التيمم للمريض وعند عسر الحصول على الماء .
الفطر للمسافر والمريض [ انظر الفقه : باب التيمم والصيام ]
أنظار المدين المعسر : من استدان في مباح لِأَجَل ولم يتمكن من الوفاء ، وجب على دائنه تأخير مطالبته إلى حال يساره ، قال تعالى : {وإن كان ذو عُسرةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] وقرر الفقهاء هنا أنه لا يُلزم بقضاء ما عليه مما في خروجه من ملكه ضرر عليه ، كثيابه ومسكنه وخادمه المحتاج إليه، وكذلك ما يحتاج للتجارة بل ليحصل على نفقة نفسه وعياله .
مظاهر الضرر:
قد يتجلى قصد الضرر في نوعين من التصرفات :
تصرفات ليس للمكلف فيها غرض سوى إلحاق الضرر بغيره ، وهذا النوع لا ريب في قبحه وتحريمه .
تصرفات يكون للمكلف فيها غرض صحيح مشروع ، ولكن يرافق غرضه أو يترتب عليه إلحاق ضرر بغيره .
النوع الأول من التصرفات : لقد ورد الشرع في النهي عن كثير من التصرفات التي لا يقصد منها غالباً إلا إلحاق الضرر منها :
المضارة في البيع : ويتناول صوراً عِدَّة منها :
بيع المضطر : وهو أن يكون الرجل محتاجاً لسلعة و لا يجدها ، فيأخذها من بائعها بزيادة فاحشة عن ثمنها المعتاد ، كأن يشتريها بعشرة وهي تساوي خمسة .
أخرج أبو داود من حديث علي رضي الله عنه : أنه خطب الناس فقال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر .
الغَبْنُ الفاحش : إذا كان المشتري لا يحسن المماكسة (المفاصلة) فاشترى بغبن كثير، لم يجز للبائع ذلك . و مذهب مالك وأحمد رحمهما الله تعالى أنه يثبت له خيار الفسخ .
الوصية : والإضرار بالوصية على حالين .
أن يَخُصَّ بعض الورثة بزيادة على فرضه الذي فرضه الله له ، فيتضرر بقية الورثة بتخصيصه ، ولذا منع الشارع من ذلك إذا لم يرض باق الورثة .
أن يوصي لأجنبي لينقص حقوق الورثة ، ولذا منع الشرع من ذلك فيما زاد عن الثلث سواء قصد المضارة أم لا ، إلا إذا أجاز الورثة ، قال صلى الله عليه وسلم : " الثلثُ والثلثُ كثير" . متفق عليه .
و أجازها في حدود الثلث ليتدارك المكلف بعض ما فاته من الخيرات في حياته ، و ما قَصَّر فيه عن وجوه الإنفاق . و هذا إذا لم يقصد الوصي بوصيته إدخال الضرر على الورثة ، وإلا فإنه يأثم بوصيته عند الله عز وجل .
النوع الثاني من التصرفات : وهي التي يكون للمتصرف فيها غرض صحيح ومشروع ، ولكن قد يرافقها أو يترتب عليها ضرر بغيره . وذلك : بأن يتصرف في ملكه بما يتعدى ضرره إلى غيره ، أو يمنع غيره من الانتفاع بملكه ، فيتضرر الممنوع بذلك .
النوع الأول : وهو التصرف في ملكه بما يتعدى ضرره، وهو على حالتين :
أن يتصرف على وجه غير معتاد ولا مألوف ، فلا يسمح له به ، وإن تصرف وتضرر غيره ضمن ما حصل من ضرر، و ذلك كأن يؤجج ناراً في أرضه في يوم عاصف، فيحترق ما يليها ، فإنه متعد بذلك وعليه الضمان .
أن يتصرف على الوجه المعتاد .
أن يُحْدِث في ملكه ما يضر بجيرانه، من هدم أو دق أو نحوهما، أو يضع ما له رائحة خبيثة، فإنه يُمنع منه .
النوع الثاني : وهو منع غيره من التصرف في ملكه وتضرر غيره بهذا المنع .
أن يمنع جاره من الانتفاع بملكه والارتفاق به: فإن كان يضر بمن انتفع بملكه فله المنع، كمن له جدار واهٍ، لا يحمل أكثر مما هو عليه، فله أن يمنع جاره من وضع خشبة عليه. وإن كان لا يضر به : له المنع من التصرف في ملكه بغير إذنه .
فائدة : ذكر السيوطي في كتابه " الأشباه والنظائر" أن مَرَدَّ مذهب الشافعي رحمه الله تعالى إلى أربع قواعد :
الأولى : " اليقين لا يُزَالُ بالشك " . وأصل ذلك ما رواه البخاري و مسلم أنه صلى الله عليه وسلم شُكِيَ له الرجل يُخَيَّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة ، قال :" لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً " . و ذلك أنه على يقين من طهارته ، فلا يرفع ذلك اليقين بالشك الذي طرأ عليه : أنه أحدث .
الثانية : " المشقة تجلب التيسير". والأصل فيها قوله تعالى : {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [ الحج: 78 ] . و قوله صلى الله عليه وسلم : " بعثت بالحنفية السمحة " رواه أحمد في مسنده .
الثالثة : " الضرر يزال " وأصلها قوله صلى الله عليه و سلم :" لا ضرر ولا ضرار" .
الرابعة : " العادة مُحَكَّمَة " . لقوله صلى الله عليه و سلم : " فما رأى المسلمون حسنا فهو عن الله حسن " . (والصحيح أن هذا الحديث هو قول ابن مسعود رضي الله عنه، رواه الإمام أحمد في مسنده) .
و بناء على ما سبق يعتبر هذا الحديث ربع الفقه الإسلامي ، و لقد اعتبره الفقهاء قاعدة أصلية من القواعد الفقهية ، و فرَّعوا عنها فروعاً عدة
No comments:
Post a Comment